«الغجر».. أبناء الريح والشمس!!

اخبار جوجل 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
«الغجر».. أبناء الريح والشمس!!, اليوم الخميس 26 يونيو 2025 07:50 صباحاً

محمد سعد عبد اللطيف كاتب وباحث في الجيوسياسية

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية

على أطراف المدن، وبين ثنايا الغابات، وعند ضفاف الأنهار، تمضي قوافل الغجر كأنها أطياف لا تُمس، وظلال لا تستقر، يحملون في عيونهم شرارة الشمس، وفي قلوبهم هدير الريح.. يأتون ولا يأتون.. يرحلون ولا يرحلون، كأن الأرض وطن عابر، والسماء خيمة أبدية.

الغجر، هؤلاء الذين تناثروا على وجه الكوكب كأنهم نثار من نيزك قديم، لا يُعرف لهم وطن، ولا تُرسم لهم حدود.أناس لا يملكون من العالم شيئًا سوى حريتهم، ولا يحكمهم قانون إلا نداء الفطرة، ولا يعترفون بسجن اسمه «الثبات».

تراهم في رقصاتهم يشبهون اللهب، وفي موسيقاهم نحيب الصحراء وهمس الأشجار، لكن، من هم حقًا؟ وهل هم مجرد جماعة هاربة من تاريخ لم يُكتب، أم أن في أعماقهم سرًّا يخص الكون؟

تشير الروايات إلى أن أصولهم تمتد إلى شبه القارة الهندية، وأنهم في رحلة طويلة، عبروا فارس والأناضول، وتبعثرت خطاهم في أوروبا، كأن قدَرهم أن يكونوا أبناء المنافي. في كل بلد سُمّوا اسمًا: في إسبانيا «الجيبتانو»، في فرنسا «المانوش»، في أوروبا الشرقية «الرّوما»، أما في الشرق العربي فقد أُطلق عليهم «الغُجر»، أو «النّور»، أو «الزط».

ورغم اختلاف الأسماء، ظلّت صورتهم واحدة: بدوُ الروح، غرباء داخل كل وطن، أسياد الظل الذين لا يعترفون بصباح واحد أو مدينة واحدة. عاشوا على الهامش، وكتبوا تاريخهم في القصائد الشعبية والأساطير، لا في كتب المؤرخين.

الغجر ليسوا فقط موسيقيين أو راقصين، بل هم فلسفة حياة، يكرهون الجدران، يخشون القيود، يقدّسون العبور. منازلهم عربات، ومصابيحهم نجوم، ومآدبهم نيران تنبعث في العراء. يحكون القصص كما يتنفسون، وكأن ذاكرتهم لا تُسجل على ورق، بل على إيقاع الطبول.

حُوصروا بالتحامل، ونُظر إليهم كمتشردين، لصوص، سحرة، بل شياطين في أدبيات العصور المظلمة. ولعل محاكم التفتيش والإبادة النازية كانت أفظع ما واجهوه، حيث قُتل منهم مئات الآلاف في الهولوكوست المنسي. ومع ذلك، ظلّوا يرقصون، يحيكون الألوان، ويُطربون العابرين. أي شعب هذا الذي يغني رغم الحريق؟

وعلى الرغم من أن أعدادًا كبيرة منهم تسكن بالقرب من قريتنا في مركز السنبلاوين، وداخل المدينة ذاتها، إلا أنهم ما زالوا يعيشون في عزلتهم، وكأنهم طائفة غامضة شبيهة بطقوس "الدروز" في انغلاقهم وأسرارهم الداخلية.

وأثناء إقامتي في أوروبا، كنت أراقبهم عن بعد، رأيتهم في ضواحي المدن الإيطالية والألمانية، يسكنون داخل عربات متنقلة، يعزفون الموسيقى في محطات المترو، ويتسولون داخل شبكات المواصلات والأسواق، متهمين دومًا بالخطف والسرقة، وبعضهم متورط في تجارة المخدرات.

يطلق عليهم في إيطاليا اسم «زنجر»، ويتزوجون من بعضهم، لا يختلطون، وكثير منهم لا يحملون هوية، يتحدث أغلبهم لغة رومانية متأثرة، وينتشرون بكثافة في رومانيا، بلغاريا، ويوغوسلافيا السابقة. نساؤهم، بمظهرهن، يذكرنك بنساء الريف المصري في ستينيات القرن الماضي: فساتين فضفاضة مطرزة، وضفائر طويلة تنسدل بانسياب على ظهورهن، كأن الزمن لم يمسّهن.

في مصر، كان لهم حضور خاص في الموالد والاحتفالات الشعبية، كانت بعض نسائهم تقرأ الودع، وبعضهن يرقصن ويغنين، والبعض يعمل في الألعاب والعروض البهلوانية، بينما اتُّهِم آخرون بسرقات في وسائل المواصلات، حتى صاروا جزءًا من المشهد الشعبي الحي والمُبهم في آنٍ واحد.. .!

فهل كان الغجر هروبًا من قسوة العالم أم تمردًا على شكله؟ وهل في اختفائهم الدائم إدانة لحضارتنا المتورّطة في الثبات والقيود؟ ربما فهم كأنهم مرآة تعكس ما نخشى أن نكونه: أحرارًا.

إنهم أبناء الريح والشمس، لا ينبتون في أرض واحدة، ولا تحكمهم حدود جغرافيا. هم قصة لم تُكتب بعد، وسؤال مفتوح على الاحتمال.

فهل نجرؤ أن نراهم كمرآة لذواتنا.. ؟ أم نبقى أسرى الصور النمطية، نراهم "الآخر" الأبدي، بينما هم في الحقيقة، ربما، نحن.. .لو كنا أكثر صدقًا مع أنفسنا؟. [email protected]

اقرأ أيضاً
بعد نجاحها.. استمرار عرض مسرحية «قمر الغجر» على مسرح البالون

بيروت تتحرك ضد مؤامرة «تل أبيب».. القرية العجيبة.. سيادة «الغجر» حائرة بين لبنان وسوريا وإسرائيل

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق