مدينة الملائكة

صوت الامة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مدينة الملائكة, اليوم الجمعة 20 يونيو 2025 10:56 مساءً

لم أكن أبحث عن فكرة، بل كانت الفكرة تبحث عني. صادفت فيلمًا كأنما كُتب لي وحدي، لا صخب فيه ولا ضجيج، لكنه يترك في القلب ما لا تتركه العواصف. مدينة الملائكة (City of Angels) ليس مجرد حكاية عن ملاكٍ يهبط إلى الأرض، بل تأمل ناعم في وجع الإنسان، وفي المعجزة التي لا نراها لأننا نحملها منذ وُلدنا: أن نكون بشرًا. 

 

في هذا الفيلم، لا يفرّ الملاك من السماء، بل يسعى إلى الأرض. لا يغادر النور سهوًا، بل يطلب العتمة عمداً.. فقط ليشعر. فقط ليبكي، ليشتاق، ليأكل تفاحة، ويحب امرأة، ويعرف لذة الحضور داخل جسدٍ يتألم. كان الملاك يطلب الحياة التي نضيق بها، ويشتهي ما نفرّ منه كلما ضاق بنا الزمان والمكان.

 

تأملتُ هذا المشهد طويلاً: ملاك يتنازل عن صفائه ليكسب هشاشته، ونحن نتمرد على هشاشتنا كأنها عار، ونطلب الكمال كأن النقص لا يليق بنا. نغضب لأننا نضعف، ونحزن لأننا نخاف، وننسى أن الله لا يردّنا حين نخطئ، بل يفتح لنا باب التوبة، ويجعل من الانكسار طريقًا إلى القرب. لم يخلقنا ملائكة، ولم يشترط علينا العصمة، بل بارك هذا العجز الذي يجعل من الدعاء صرخةً حقيقية، ومن الدموع جسراً إلى رحمته. نحن لا نُقصى حين نخطئ، بل نُحتضن إذا عدنا، ويُغفر لنا إذا صدقنا، ويُرفع قدرنا كلما عرفنا ضعفنا وسجدنا به لا له.

 

قال رسول الله ﷺ: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يُذنبون فيستغفرون، فيغفر الله لهم". لسنا نحب الخطأ، بل نحتاج إلى الرحمة، ونرجو يدًا لا تدفعنا، بل تمسك بنا حين نتعثر. الملاك لا يعرف لذة الرجاء، ولا وجع الخيبة التي تُنبت الحكمة، ولا دمعة الليل التي تُكتَب في السماء. لا يعرف الخوف الذي يُربّي الإيمان، ولا اللحظة التي يبكي فيها العبد وحده ثم يقوم وكأنما عاد إلى الله من كل مسافة. نحن من نعرف قيمة أن نُحتضن ونحن على ضعفنا، وأن يُغفر لنا لأننا صدقنا في العودة، لا لأننا لم نُخطئ.

 

حين انتهى الفيلم، أدركت أنه لا يحكي عن الملاك، بل عن الإنسان. عن الامتياز العجيب الذي لا يعرفه إلا مَن تذوّق المرارة ثم ابتسم. الملاك لم يندم على نزوله، لأن لحظةً واحدة من الحب الإنساني كانت أثمن عنده من دهرٍ من الصفاء الخالي من التجربة. ونحن أيضًا، قد لا ندرك جمال ما نحن عليه حتى نراه من بعيد.. من عين مَن لم يُمنح هذه النعمة. وربما، لو صدقنا النظر في أنفسنا، سنشكر الله لا لأننا أقوياء، بل لأننا خُلقنا بشرًا.. من يخطئون، ويحبّون، ويعودون، ويُرفعون، فقط لأنهم عرفوا الطريق إليه.

 

أخبار ذات صلة

0 تعليق