لقاء ترامب – الشرع.. القطيعة الاستراتيجية

قناة المنار 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
لقاء ترامب – الشرع.. القطيعة الاستراتيجية, اليوم الخميس 15 مايو 2025 03:11 مساءً

أحمد فرحات

يمثل أحمد الشرع، المعروف سابقًا بـ”أبو محمد الجولاني”، نموذجًا فريدًا للتحولات الجذرية التي تشهدها المنطقة. فمن رحم التجربة “الجهادية” في أفغانستان والعراق إلى زعيم سياسي في سوريا، رسم مسارًا يعكس التناقضات العميقة في المشهد الجيوسياسي العربي. هذه التحولات تطرح أسئلة مصيرية عن مستقبل سوريا ودورها في الصراع العربي-الإسرائيلي.

نشأ الشرع في أحضان الفكر الجهادي السلفي، حيث تشكلت رؤيته في معسكرات العراق إبان فترة الاحتلال الأمريكي واعتقل في سجن “بوكا” لعدد من السنوات. قاد هيئة تحرير الشام في سوريا التي قدمت نفسها ككيان يجمع بين المرونة السياسية والتمسك بخطاب “السلفية”. سوريا تحت قيادته شهدت تحولًا جذريًا من حاضنة للمقاومة إلى لاعب يسعى للاندماج في النظام الإقليمي الجديد تحت رعاية أمريكية وعباءة عربية تطبيعية.

يمثل أحمد الشرع، المعروف سابقًا بـ”أبو محمد الجولاني”، خلاصة تجربة جهادية امتدت من أفغانستان إلى سوريا عبر العراق، على مدى سنوات ومحطات متنوعة، حتى تبلورت بمشروع سياسي ضمن جماعة هيئة تحرير الشام. هذه الهيئة التي عرفها كثيرون كتحالف جهادي يتمتع بدرجة من المرونة السياسية، دون التخلي عن جوهر مشروع الجهاد والعمل على تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي، وإن اختلفت الطرق والأساليب.

التحول في موقع سوريا الإقليمي

لعقود، كانت سوريا حجر الزاوية في محور المقاومة. دعمت حركات المقاومة الفلسطينية ماليًا ولوجستيًا، وواجهت العقوبات والعزلة الدولية بثبات. لكن الحكام الجدد يسعون إلى قيادة البلاد نحو المحور الغربي، حيث أصبح رفع العقوبات والانفتاح الاقتصادي أولوية على حساب القضايا المركزية.

لكن مشروع “الجهاد السياسي” الذي تجسد في وصول الشرع إلى السلطة، بدأ بتحويل هذا البلد من محور المقاومة إلى محور غربي، اقتصاديًا وسياسيًا. فتحت سوريا الجديدة أبوابها للوفود الغربية، واستجابت لضغوط رفع العقوبات مقابل الالتزام بتغيرات استراتيجية في توجهها، ومن أبرزها “طرد النفوذ الإيراني”، الذي كان على مدى سنوات المظلة التي تحتم بها المقاومة الفلسطينية، خصوصًا في غزة.

ومع وصول هذه التجربة إلى الحكم في سوريا، وسيطرتها على بلد يمثل موقعًا جغرافيًا واستراتيجيًا وإسلاميًا وتاريخيًا ذا أبعاد كبيرة، شهدت البلاد تحوّلًا نوعيًا في مسارها السياسي. سوريا التي كانت لسنوات طويلة رافعة لمحور المقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ودعمت حركات المقاومة الفلسطينية والإسلامية في لبنان وفلسطين على الصعيدين المالي والسياسي واللوجستي، فتحت ذراعيها لتلك الحركات، واحتضنت مكاتب ومعسكرات المقاومة، وواجهت من أجل ذلك عقوبات أميركية وعزلة دولية.

لقاء ترامب والشرع.. المشهد المفصلي

في مشهد لم يكن أحد ليتخيله قبل سنوات، جلس أحمد الشرع إلى جانب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في قمة رسمية استضافتها العاصمة السعودية الرياض. رجل نشأ في أحضان الفكر الجهادي السلفي، وخاض حروبًا شعواء تحت رايات عابرة للحدود، ها هو اليوم يُسلَّم مقاليد الحكم في دمشق، ويصافح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بينما تشتعل غزة تحت وابل من القصف الإسرائيلي، المدعوم من الإدارة الأمريكية.

اللافت هنا ليس فقط التخلي عن الخطاب الثوري، بل الانزياح الاستراتيجي الذي تجسّد في لقاء الشرع التاريخي مع دونالد ترامب في الرياض، والذي تجاهل تمامًا جرائم الحرب في فلسطين، بينما ركّز على “الفرص الاقتصادية” ورفع العقوبات. هذا المشهد لم يكن معزولًا، بل تتويجًا لسياسةٍ متدرجةٍ بدأت بقطع العلاقة مع إيران، وتهميش دور المقاومة الفلسطينية في الخطاب الرسمي، والانخراط في مشاريع إقليمية قد تكون مقدمة للتطبيع مع العدو الإسرائيلي.

لم يكن لقاء الشرع ـ ترامب حدثًا معزولًا أو مفاجئًا. بل كان تتويجًا لمسار سياسي طويل بدأ منذ أن خلع الرجل عباءة “الجهاد العالمي”، وبدأ بإعادة تموضع خطاباته لتخاطب العواصم الغربية وتغازل واشنطن. فالرجل الذي تبنّى النهج المعادي للغرب والداعي إلى تحرير القدس كغاية مركزية، أصبح اليوم على رأس نظام ينفتح على الغرب من دون مواربة، ويقدّم نفسه كـ”شريك محتمل” في مشروع الاستقرار الإقليمي، متخليًا عن أدبيات الصراع، بل حتى عن لغة التضامن مع غزة، التي كانت في لحظة لقائه بترامب تتعرض لحرب إبادة شاملة.

تغييب فلسطين عن الخطاب الجديد

ومن المفارقات العجيبة في هذا التحول، أن أحمد الشرع، عندما سُئل عن الإرهاب خلال زيارته إلى فرنسا، لم يتحدث عن إرهاب الاحتلال الإسرائيلي بحق شعب غزة، التي كانت تمني نفسها خيرًا بعد أن اعتقدت أن المعارضة السورية الجديدة ستشكل رافعة لقضيتها، لكن ما حصل كان عكس ذلك تمامًا.

الصادم في القمة التي جمعت الشرع وترامب لم يكن فقط توقيتها، بل محتواها أيضًا. إذ خلا البيان المشترك، وكل التصريحات المرافقة، من أي إشارة إلى العدوان الإسرائيلي أو معاناة المدنيين في القطاع المحاصر. لا “احتلالًا” ذُكر، ولا “إرهابًا” أُدين، بل محادثات اقتصادية، ووعود بإعادة الإعمار، و”عهد جديد” في العلاقات مع واشنطن.

ذلك الصمت لم يكن استثناءً، بل امتدادًا لمواقف متراكمة، حرص خلالها الشرع، منذ ظهوره العلني كـ”زعيم معتدل”، على تجاهل القضية الفلسطينية تمامًا. ففي كل مقابلاته مع الإعلام الغربي، لم يأتِ على ذكر “إسرائيل” إلا بوصفها “طرفًا إقليميًا”، ولم يستخدم أي مفردة من معجم المقاومة أو حتى مظلومية شعب فلسطين.

وفي هذا السياق، أجرى مدير العلاقات العامة في وزارة الإعلام السورية، علي الرفاعي مقابلة مع قناة “كان 11” الاسرائيلية، مؤكداً وجهة نظر حكومته الجديدة أنها تريد السلام مع جميع الأطراف في المنطقة، “بمن فيهم العدو الإسرائيلي”، مع اغفال احتلال “إسرائيل” لأراضي وازنة في مناطق الجنوب السوري.

التحذيرات والمآلات

هذا ما حذر منه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، حين أكد أن سقوط سوريا من محور المقاومة يعني نقلها إلى حظيرة التطبيع العربية، وهو ما تحقق عمليًا بلقاء الشرع مع ترامب في الرياض، بالتزامن مع أجواء مأساوية في غزة حيث تستمر حرب الإبادة.

لقاء الشرع ـ ترامب، الذي وُصف بالتاريخي في إعلام سوريا الجديدة وبعض الفضائيات العربية، شكل صدمة للأوساط في سوريا وفلسطين على حد سواء، خاصةً في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، في وقت احتفت دمشق برفع العقوبات الأمريكية عنها ورفعت صور ترامب في شوارعها، بينما يعاني أهل غزة الجوع والقتل والتهجير، في مشهدٍ استفزازي لمشاعر الشعب الفلسطيني بشكل عام وأهل غزة خاصة.

غياب فلسطين عن خطاب الشرع، وعدم إدانته لأي سلوك إسرائيلي في غزة أو الضفة، ولقاؤه العلني مع ترامب في حضن الرياض، تفتح الباب واسعًا أمام تساؤل مركزي: هل تسير سوريا الجديدة نحو تطبيع فعلي – ولو غير معلن – مع إسرائيل؟ وهل يُختبر هذا المسار الآن، من خلال تقديم أوراق اعتماد إلى الغرب على قاعدة فك الارتباط بقضية فلسطين؟

سقط “الجولاني” في فخ الغرب، بعدما كان يزعم تقديم نموذج إسلامي جديد في الحكم، ليصبح نسخة مكررة من تجارب الأنظمة التي تواطأت مع الغرب من أجل تصفية القضية الفلسطينية، فخرج من عباءة الجهاد إلى حضن التحالف مع ترامب وولي عهد السعودية محمد بن سلمان، بما يعنيه ذلك من تنسيق مع الدولتين في مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، ومنح صك استسلام للكيان الصهيوني لتصدر المشهد العربي.

الرهانات الوهمية والعقوبات

يراهن الشرع على أن الانفتاح على واشنطن ورفع العقوبات سيكون بوابة التعافي الاقتصادي والاستقرار السياسي، فيما تظن السلطة الجديدة في دمشق أن هذا الطريق سيجلب الاستقرار والازدهار للبلاد، لكنها تغفل تجربة السودان التي رفعت العقوبات عنها عام 2017، حيث تبخرت الوعود الاقتصادية وتهاوى الاقتصاد وسقط النظام، وكذلك تجارب عدة دول هرعت إلى الغرب وبعض الدول العربية للتسول من أجل الاستثمارات، ووجدت نفسها في فخ التبعية والفشل.

العقوبات ليست مجرد أداة ضغط عابرة، بل هي آلية لإعادة صياغة الدول وفق مصالح إسرائيل وأميركا، حيث لا يُسمح لأي دولة بأن تكون قوية ومستقلة إلا إذا كانت تخدم أمن إسرائيل، أما من يسعى للتحرر أو يقول “لا” فهو يُدفع نحو العزل أو السقوط.

وفي هذا الإطار، كشف حازم الغبرة، الذي شغل منصب كبير المستشارين للدبلوماسية العامة للشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركية عام 2016، عن آلية تنفيذ قرار تعليق العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، مشيرًا إلى أن المعلومات التي يعرضها جاءت بعد تواصل مباشر مع وزارة الخارجية ووزارة الخزانة الأميركية.

وأوضح الغبرة، الذي يحتفظ بعلاقات دبلوماسية واسعة في واشنطن وفي تل أبيب، أن ما يجري ليس رفعًا للعقوبات، بل تعليقًا مؤقتًا لها، مؤكدًا أن القرار مجدول لمدة عامين، يخضع خلالهما لمراجعة دورية كل ستة أشهر لتقييم مدى جدوى هذا التعليق.

وبحسب الغبرة، فإن المرحلة الأولى من التعليق ستشمل القطاعات الأساسية، وهي: القطاع النقدي، والاتصالات، والطاقة، والنقل الجوي، معتبرًا أن مسار رفع العقوبات بشكل نهائي ليس سهلًا، بل يتطلب المرور عبر الكونغرس الأميركي، الذي يبقى الجهة الوحيدة المخولة بإنهاء العقوبات رسميًا.

وأكد أن الإدارة الأميركية تتعامل مع الملف وفق نهج تدريجي، حيث تُربط كل خطوة بنتائج ملموسة على الأرض، سواء على المستوى الإنساني أو السياسي.

الانفصال عن فلسطين وبوادر التطبيع

منذ تسلّمه السلطة، أظهرت قيادة الشرع اندفاعة واضحة لقطع كل ما يربط دمشق بالقضية الفلسطينية. لا حديث عن إيران، لا تواصل مع حركات المقاومة الفلسطينية، لا دعم معنوي أو سياسي لأي مواجهة مع “إسرائيل”. بل على العكس، شرع النظام الجديد في بناء شبكة تفاهمات مع الرياض وواشنطن، قد تُمهد لاحقًا، بحسب مراقبين، لانفتاح مدروس على تل أبيب، حتى لو بدأ بخطوط خلفية أو مشاريع اقتصادية مشتركة.

في هذا السياق، يصبح احتمال تطبيع سوريا مع الكيان الإسرائيلي، الذي يُختبر اليوم عبر سياسات الشرع، ليس مجرد خيار سياسي، بل خيانة واضحة للشعب الفلسطيني، مهما كانت الدوافع والمبررات، إذ أن فلسطين هي بوصلة الشرعية الوطنية والقومية، وأي سلطة تتجاوزها أو تغض الطرف عن معاناة شعبها لا يمكنها أن تدّعي تمثيل الأمة أو الدفاع عن حقوقها.

إما محور المقاومة أو مشروع التصفية

لكن كل محاولة لتحييد فلسطين عن المشهد السوري لن تكون إلا اختبارًا لشرعية أي سلطة حاكمة في دمشق. فالقضية الفلسطينية ليست ورقة سياسية عابرة، بل هي جزء من الهوية السورية المعاصرة، ومن المعركة المفتوحة ضد الهيمنة الأميركية والإسرائيلية في المنطقة.

وأي سلطة تتجاوز هذا المعطى، أو تساوم عليه، أو تعتبره “عبئًا خارجيًا”، ستفقد تلقائيًا ارتباطها العضوي بالقضية المركزية للعرب، وستتحوّل – شاءت أم أبت – إلى شريك ضمني في مشروع تصفية فلسطين، حتى لو لم توقّع رسميًا على ورقة تطبيع.

إن ما يجري في دمشق ليس مجرد انتقال سياسي، بل إعادة رسم شاملة لهوية الدولة السورية ودورها الإقليمي. فإما أن تكون جزءًا من محور القدس، بعقلية جديدة وحسابات أكثر واقعية، أو أن تنخرط في مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الأميركي – الإسرائيلي، تحت وعود وهمية بالنمو والانفتاح.

رفع صور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في شوارع دمشق رغم دعمه المطلق للاحتلال الإسرائيلي في حرب الإبادة في غزة (أ.ف.ب.)
رفع صور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في شوارع دمشق رغم دعمه المطلق للاحتلال الإسرائيلي في حرب الإبادة في غزة (أ.ف.ب.)

سوريا اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما، العودة لدورها التاريخي الداعم للقضية الفلسطينية، أو الانزلاق الكامل نحو التطبيع تحت غطاء “الواقعية”. وفي الوقت نفسه لا يمكن فصل تحركات الشرع عن السياق الإقليمي الأوسع، حيث تشكّل “صفقة القرن” والإغراءات الاقتصادية أدواتٍ لفرض التطبيع كمسارٍ لا مفر منه. فسوريا، التي كانت لسنواتٍ حجر الزاوية في محور المقاومة، تُختبر اليوم عبر سياسة “الخطوات الصغيرة”:

الانفتاح الاقتصادي كمدخل للتطبيع: تُستخدم وعود رفع العقوبات وإعادة الإعمار كفخٍّ لجذب النظام إلى دائرة التبعية للغرب.

إضعاف المحور الإيراني: طرد النفوذ الإيراني – بحسب الرؤية الغربية – ليس خطوةً لاستعادة السيادة السورية، بل لقطع الطريق على أي تحالفٍ معادٍ لإسرائيل.

الصمت على جرائم الاحتلال: غياب أي إدانة للعدوان الإسرائيلي من قبل قيادة الشرع، يؤكد أن فلسطين لم تعد أولوية، بل عبئًا يُستبدل بـ”الشراكات الاستراتيجية”.

الخطر الأكبر ليس في التحول السياسي ذاته، بل في خسارة سوريا لدورها كرافعةٍ للمشروع التحرري العربي. فدمشق، التي احتضنت لسنواتٍ قيادات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وأمدتهم بالدعم اللوجستي والسياسي، تتحول اليوم إلى دولةٍ تنظر إلى القضية الفلسطينية كـ”إرثٍ ثقيل”. هذا ليس انزياحًا تكتيكيًا، بل خيانةً للشرعية التاريخية التي ارتبطت بها سوريا منذ حرب 1967 وما قبلها من أحداث.

كما أن الوهم القائل بأن “الانفتاح على الغرب” سيُحقق الاستقرار يتجاهل درسًا جليًا: لا يُسمح لأي نظامٍ في المنطقة بالازدهار إلا إذا خدم الأمن الإسرائيلي. فالسودان ومصر نموذجان واضحان؛ فالأولى سقط نظامها بعد رفع العقوبات، والثانية تحوّلت إلى شريكٍ في حصار غزة رغم “المساعدات الأمريكية”.

المصدر: موقع المنار

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق